فصل: مَسْأَلَة: (2) إِذا علق الحكم على صفة فِي جنس كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام «فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة» دلّ على نَفْيه عَمَّا عَداهَا فِي ذَلِك الْجِنْس وَلَا يدل على النَّفْي عَمَّا عَداهَا فِي سَائِر الْأَجْنَاس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مسَائِل الْمُطلق والمقيد:

.مَسْأَلَة: (1) لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي حكمين مُخْتَلفين كآية الظِّهَار وَالْقَتْل من غير دَلِيل:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِنَفس اللَّفْظ.
لنا هُوَ أَن اللَّفْظ الْمُقَيد لَا يتَنَاوَل الْمُطلق فَلَا يجوز أَن يحكم فِيهِ بِحكمِهِ من غير عِلّة، أَلا ترى أَن الْبر لما لم يتَنَاوَل الْأرز لم يجز أَن يحكم فِيهِ بِحكمِهِ من غير عِلّة فَكَذَلِك هَاهُنَا؛ وَلِأَن اللَّفْظ الْمُطلق لَا يتَنَاوَل الْمُقَيد فَلَو جَازَ أَن يَجْعَل الْمُطلق مُقَيّدا لتقييد غَيره لجَاز أَن يَجْعَل الْقَيْد مُطلقًا لإِطْلَاق غَيره وَلما لم يجز أَحدهمَا لم يجز الآخر، وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَو جَازَ أَن يَجْعَل مَا أطلق مُقَيّدا لتقييد غَيره لجَاز أَن يَجْعَل الْعَام خَاصّا لتخصيص غَيره ولوجب أَن يَجْعَل الْمُطلق مَشْرُوطًا لدُخُول الشَّرْط فِي غَيره وَهَذَا يمْنَع التَّقْيِيد بالْكلَام وَيبْطل الْفرق بَين الْعَام وَالْخَاص وَهَذَا لَا يجوز.
وَاحْتَجُّوا بِأَن حمل الْمُطلق على الْمُقَيد من جِهَة اللَّفْظ لُغَة الْعَرَب، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ {ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات} وَأَرَادَ نقص من الْأَنْفس وَنقص من الثمرات وَلكنه لما قَيده بالأنفس اكْتفى بِهِ فِي الْبَاقِي وَقَالَ الله تَعَالَى {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} فقيافي أحد الجنسين وَاكْتفى بِهِ فِي الْجِنْس الآخر وَقَالَ الشَّاعِر:
وَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ** أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني

هُوَ الْخَيْر الَّذِي أَنا أبتغيه ** أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني

فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، وَقَالَ الآخر:
أَنا الرجل الحامي الذمار وَإِنَّمَا ** يدافع عَن أحسابهم أَنا أَو مثلي

فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر.
وَالْجَوَاب: أَن فِيمَا ذَكرُوهُ إِنَّمَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَنَّهُ لَو لم يحمل الثَّانِي على الأول لالتبس الْكَلَام وَلم يفد فَحمل أَحدهمَا على الآخر لموْضِع الضَّرُورَة وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَة تَقْتَضِي الْحمل وَلَفظ أَحدهمَا لَا يتَنَاوَل الآخر فَحمل كل وَاحِد مِنْهُمَا على ظَاهره.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْقُرْآن من فاتحته إِلَى خاتمته كالكلمة الْوَاحِدَة فَوَجَبَ ضم بعضه إِلَى بعض.
قُلْنَا هَذَا دَعْوَى فَكيف يكون كَذَلِك وَهُوَ يشْتَمل على معَان مُخْتَلفَة وأصناف شَتَّى من الْقَصَص والأمثال وَالْأَحْكَام وَغير ذَلِك.
ثمَّ لَو كَانَ هَذَا يُوجب حمل بعضه على بعض لوَجَبَ أَن يخص كل عَام فِيهِ لِأَن فِيهِ مَا هُوَ مَخْصُوص وَيجْعَل كل أَمر فِيهِ ندبا لِأَن فِيهِ مَا هُوَ مَنْدُوب وللزم أَن يَجْعَل مَا قَيده فِيهِ مُطلقًا وَلم يكن حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِأولى من حمل الْمُقَيد على الْمُطلق وَلما بَطل هَذَا بَطل مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (2) يجوز حمل الْمُطلق فِي أحد الْحكمَيْنِ على الْمُقَيد فِي الحكم الآخر من جِهَة الْقيَاس كالرقبة الْمُطلقَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار على الرَّقَبَة الْمقيدَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل بِالْإِيمَان:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا يجوز.
لنا هُوَ أَن هَذَا تَخْصِيص عُمُوم لِأَن قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} عَام فِي الرَّقَبَة المؤمنة والكافرة فَإِذا قُلْنَا إِن الْكَافِرَة لَا تجوز خصصنا الْكَافِرَة من الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَتَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ جَائِز كَسَائِر العمومات.
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذِه زِيَادَة فِي النَّص وَالزِّيَادَة فِي النَّص نسخ عندنَا والنسخ بِالْقِيَاسِ لَا يجوز.
وَالْجَوَاب: أَن هَذَا لَيْسَ بِزِيَادَة وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَان بِالْحَقِيقَةِ لِأَن اللَّفْظ الْمُطلق يَقْتَضِي جَوَاز كل رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت أَو كَافِرَة فَإِذا منعنَا الْكَافِرَة فقد أخرجنَا بعض مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر وَذَلِكَ نُقْصَان وَتَخْصِيص فَأَما أَن يكون زِيَادَة فَلَا.
فَإِن قيل: التَّخْصِيص هُوَ أَن يخرج من اللَّفْظ بعض مَا تنَاوله وَقَوله تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} لَا يتَنَاوَل الْإِيمَان فَمن اعْتبر ذَلِك فقد زَاد شرطا لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ فَدلَّ على أَنه زِيَادَة.
قُلْنَا اللَّفْظ وَإِن لم يتَنَاوَل الْإِيمَان فقد تنَاول الْكَافِرَة فَإِذا قُلْنَا إِن الْكَافِرَة لَا تجزي فقد أخرجنَا من اللَّفْظ بعض مَا تنَاوله بِعُمُومِهِ فَكَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا، وعَلى أَن الزِّيَادَة عندنَا لَيست بنسخ فَلَا يَصح مَا بنوا عَلَيْهِ من الدَّلِيل.
قَالُوا وَلِأَن الرَّقَبَة فِي الظِّهَار مَنْصُوص عَلَيْهَا وَفِي الْقَتْل مَنْصُوص عَلَيْهَا وَقِيَاس الْمَنْصُوص على الْمَنْصُوص لَا يجوز وَلِهَذَا لم يجز قِيَاس صَوْم التَّمَتُّع على صَوْم الظِّهَار فِي إِيجَاب التَّتَابُع وَلَا صَوْم الظِّهَار على صَوْم التَّمَتُّع فِي إِيجَاب التَّفْرِيق، وَلِهَذَا لم يجز قِيَاس حد السّرقَة على حد قَاطع الطَّرِيق فِي إِيجَاب قطع الرجل، وَلِهَذَا لم يجز قِيَاس التَّيَمُّم على الْوضُوء فِي إِيجَاب مسح الرَّأْس وَالرجل.
وَالْجَوَاب: أَن فِي صَوْم التَّمَتُّع وَصَوْم الظِّهَار نَص على حكمين متضادين فَحمل أَحدهمَا على الآخر إبِطَال للنَّص وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن اللَّفْظ فِي الظِّهَار مُطلق وَفِي الْقَتْل مُقَيّد وَفِي أَحدهمَا عَام مُطلق وَفِي الآخر خَاص مُبين فَيحمل أَحدهمَا على الآخر، وَأما حد السّرقَة فَإِنَّمَا لم يحمل على قطاع الطَّرِيق وَلَا آيَة التَّيَمُّم على آيَة الْوضُوء فِي مسح الرَّأْس وَالرجل لِأَن الْإِجْمَاع منع مِنْهُ وَمن شَرط الْقيَاس أَن لَا يُعَارضهُ إِجْمَاع وَهَاهُنَا لم يُعَارضهُ إِجْمَاع وَلَا غَيره فَجَاز قِيَاس أَحدهمَا على الآخر كقياس التَّيَمُّم على الْوضُوء فِي إِيجَاب الْمرْفقين لما لم يُعَارضهُ إِجْمَاع وَلَا غَيره أجزناه.

.مسَائِل دَلِيل الْخطاب:

.مَسْأَلَة: (1) إِذا علق الحكم فِي الشَّيْء على صفة من صِفَاته دلّ على أَن مَا عَداهَا يُخَالِفهُ:

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج وَأَبُو بكر الْقفال وَالْقَاضِي أَبُو حَامِد رَحِمهم الله وَقوم من الْمُتَكَلِّمين لَا يدل على الْمُخَالفَة وَهُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة.
وَحكي عَن بَعضهم أَنه فرق بَين الْمُعَلق على غَايَة وَالْمُعَلّق على غير غَايَة.
وَحكي عَن بَعضهم أَنه فرق بَين أَن يكون بِلَفْظ الشَّرْط وَبَين أَن لَا يكون بِلَفْظ الشَّرْط.
لنا مَا رُوِيَ أَن يعلى بن أُميَّة قَالَ لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَا بالنا نقصر وَقد أمنا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} فَقَالَ عمر عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ «صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته» وَهَذَا دَلِيل على أَن تَعْلِيق الْقصر بالخوف اقْتضى أَن حَال الْأَمْن لَا يجوز حَتَّى عجب مِنْهُ عمر ويعلى وأقرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَرُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس خَالف الصَّحَابَة فِي تَوْرِيث الْأُخْت مَعَ الْبِنْت وَاحْتج بقوله تَعَالَى {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك} وَهَذَا تعلق بِدَلِيل الْخطاب وَأَنه لما ثَبت مِيرَاث الْأُخْت عِنْد عدم الْوَلَد دلّ على أَن عِنْد وجوده لَا تستحقه وَهُوَ من فصحاء الصَّحَابَة وعلمائهم وَلم يُنكر أحد استدلاله فَدلَّ على أَن ذَلِك مُقْتَضى اللُّغَة، وَأَيْضًا هُوَ من الْأَنْصَار قَالُوا لَا غسل من التقاء الختانين وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «المَاء من المَاء» وَهَذَا اسْتِدْلَال بِدَلِيل الْخطاب، وَمن قَالَ مِنْهُم أَنه يجب الْغسْل أجَاب بِأَن المَاء من المَاء مَنْسُوخ وَهَذَا اتِّفَاق مِنْهُم على دَلِيل الْخطاب.
فَإِن قيل: لَا نسلم أَنهم رجعُوا فِي هَذِه الْمَوَاضِع إِلَى دَلِيل الْخطاب وَإِنَّمَا رجعُوا إِلَى الأَصْل وَذَلِكَ أَنهم أثبتوا الْقصر وَالْمِيرَاث وَالْغسْل فِي الْمَوَاضِع الَّتِي تنَاولهَا الْخطاب بالنطق وَرَجَعُوا فِيمَا لَا خطاب فِيهِ إِلَى الأَصْل وَهُوَ أَنه لَا قصر وَلَا مِيرَاث وَلَا غسل.
قُلْنَا لم يرجِعوا فِي هَذِه الْمَوَاضِع إِلَّا إِلَى مُوجب النُّطْق وَدَلِيل الْخطاب، أَلا ترى أَن يعلى بن أُميَّة قَالَ لعمر مَا بالنا نقصر وَقد أمنا وَقد قَالَ الله تعلى {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} فَتعلق بِمُوجب النُّطْق وَلم يقل وَالْأَصْل هُوَ الْإِتْمَام، وَقَالَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم قَوْله المَاء من المَاء كَانَ رخصَة وَقد نسخ وَأَرَادُوا دَلِيل الْخطاب وَلَو رجعُوا فِي ذَلِك إِلَى الأَصْل لما وصفوه بالنسخ لِأَن النّسخ رفع مَا ثَبت بِالشَّرْعِ فَأَما مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الأَصْل وَنقل إِلَى غَيره فَلَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ فَدلَّ على أَن المحتج مِنْهُم إِنَّمَا احْتج بِدَلِيل الْخطاب، وَأَيْضًا هُوَ أَن ضم الصّفة إِلَى الِاسْم يَقْتَضِي الْمُخَالفَة والتمييز فِي كَلَام الْعَرَب، أَلا ترى أَنهم لَا يَقُولُونَ أعْط زيدا الطَّوِيل وعمرا الْقصير والطويل والقصير عِنْدهم وَاحِد فَدلَّ على أَن مَوْضُوع اللَّفْظ الْمُخَالفَة والتمييز، وَلِأَن تَقْيِيد الِاسْم الْعَام بِالصّفةِ يَقْتَضِي التَّخْصِيص أَلا ترَاهُ لَو لم يُقيد الْغنم بالسوم اقْتضى السَّائِمَة والمعلوفة فَإِذا قيدها بالسوم منع هَذَا التَّقْيِيد دُخُول المعلوفة وَاقْتضى اخْتِصَاص الزَّكَاة بالسائمة وكل مَا اقْتضى تَخْصِيص الِاسْم الْعَام وَجب أَن يَقْتَضِي الْمُخَالفَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ سَائِر الْأَلْفَاظ الَّتِي يخص بهَا الْعُمُوم، وَلِأَنَّهُ قيد الحكم بِمَا لَو انتزع مِنْهُ لعم فَوَجَبَ أَن يتَضَمَّن النَّفْي وَالْإِثْبَات كالاستثناء والغاية، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذا قَالَ طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ الْكَلْب فِيهِ أَن يغسلهُ سبعا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ أَفَادَ تَعْلِيق الطَّهَارَة بالسبع فَمَتَى طهرناه بِمَا دون السَّبع خرج السَّبع عَن أَن يكون مطهرا لِأَن الغسلة السَّابِعَة ترد وَالْمحل مَحْكُوم بِطَهَارَتِهِ وَهَكَذَا إِذا قَالَ فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة أَفَادَ تعلق الْوُجُوب بالسائمة فَمَتَى أَوجَبْنَا الزَّكَاة فِي المعلوفة أخرجنَا السَّائِمَة عَن أَن يتَعَلَّق بهَا الْوُجُوب.
وَاحْتَجُّوا بِأَن إِثْبَات الحكم بِدَلِيل الْخطاب إِمَّا أَن يكون بِالْعقلِ وَلَا مجَال لَهُ فِيهِ أَو بِالنَّقْلِ وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ذَلِك تواترا أَو آحادا وَلَا يجوز أَن يكون تواترا لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهِ تَوَاتر لعلمناه كَمَا علمْتُم وَلَا يجوز أَن يكون آحادا لِأَنَّهُ من مسَائِل الْأُصُول وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتهَا خبر الْوَاحِد.
قُلْنَا قد أثبتناها بِالنَّقْلِ وَهُوَ مَا روينَاهُ عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم.
فَإِن قيل: إِلَّا أَنه من طَرِيق الْآحَاد فَلَا تثبت بِهِ مسَائِل الْأُصُول.
قيل هُوَ وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد إِلَّا أَنه يجْرِي مجْرى التَّوَاتُر لِأَن الْأمة تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ فاتفقت على صِحَّته وَإِن اخْتلفت فِي الْعَمَل بِهِ.
قَالُوا وَأَيْضًا هُوَ أَن الصِّفَات وضعت للتمييز بَين الْأَنْوَاع كَمَا وضعت الْأَسْمَاء للتمييز بَين الْأَجْنَاس ثمَّ تَعْلِيق الحكم على الِاسْم لَا يَقْتَضِي نَفْيه عَمَّا عداهُ فَكَذَلِك تَعْلِيقه على الصّفة.
وَالْجَوَاب: أَن من أَصْحَابنَا من قَالَ: أَن تَعْلِيق الحكم على الِاسْم يَقْتَضِي نَفْيه عَمَّا عداهُ وَهُوَ قَول أبي بكر الدقاق فعلى هَذَا لَا نسلم، وَإِن سلمنَا ذَلِك على ظَاهر الْمَذْهَب فَالْفرق بَينهمَا من وُجُوه:
أَحدهَا هُوَ أَن الْعَرَب قد تجمع بَين الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة فِي الحكم وتنص على اسْم كل وَاحِد مِنْهَا أَلا ترَاهَا تَقول اشْتَرِ لَحْمًا وَتَمْرًا وخبزا وَلَا تقيد الحكم بِالصّفةِ والموصوف بِتِلْكَ الصّفة وضدها وَاحِد أَلا ترَاهَا لَا تَقول اشْتَرِ لَحْمًا مشويا والمشوي والنيء عِنْدهَا سَوَاء وَلَا اشْتَرِ تَمرا برنيا والبرني وَغَيره عِنْدهم سَوَاء.
وَالثَّانِي أَن تَعْلِيق الحكم على بعض الْأَسْمَاء لَا يمْنَع تَعْلِيقه بغَيْرهَا من الْأَسْمَاء، أَلا ترى أَنه إِذا أجب الزَّكَاة فِي الْغنم ثمَّ أوجبهَا فِي الْبَقر لم يمْنَع تعلقهَا بالبقر من تعلقهَا بالغنم وَتَعْلِيق الحكم على أحد صِفَتي الشَّيْء يمْنَع تعلقه بضدها أَلا ترى أَنه إِذا علق الزَّكَاة على سَائِمَة الْغنم ثمَّ أوجبهَا فِي المعلوفة خرج عَن أَن يكون الْوُجُوب مُتَعَلقا بالسائمة وَبقيت الزَّكَاة معلقَة على الِاسْم فَقَط.
وَالثَّالِث هُوَ أَن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص اسْم عَام فَلم يقتض الْمُخَالفَة وتعليقه بِالصّفةِ يَقْتَضِي تَخْصِيص اسْم عَام والتخصيص لَا يكون إِلَّا بِمَا يَقْتَضِي الْمُخَالفَة كالاستثناء والغاية، وَلِأَن الِاسْم لَا يجوز أَن يكون عِلّة فِي الحكم فتعليق الحكم عَلَيْهِ لَا يَقْتَضِي الْمُخَالفَة وَالصّفة يجوز أَن تكون عِلّة فِي الحكم فتعليق الحكم عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْمُخَالفَة.
قَالُوا لَو كَانَ إِيجَاب الزَّكَاة فِي السَّائِمَة يُوجب نفي الزَّكَاة عَن المعلوفة لَكَانَ التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي إِيجَاب الزَّكَاة مناقضة وَلما جَازَ أَن يَقُول فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة وَفِي معلوفتها الزَّكَاة دلّ على أَن الْإِيجَاب فِي أحد النَّوْعَيْنِ لَا يَقْتَضِي النَّفْي عَن النَّوْع الآخر.
قُلْنَا يبطل بالغاية فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُخَالفَة على قَول كثير مِنْهُم وَإِن جَازَ أَن يُصَرح فِيمَا بعْدهَا بِحكم مَا قبلهَا وعَلى أَن اللَّفْظ يجوز أَن يدل بِظَاهِرِهِ على معنى ثمَّ يتْرك ظَاهره بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ كالأمر يدل ظَاهره على الْإِيجَاب ثمَّ يدل الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ الِاسْتِحْبَاب فَيتْرك ظَاهره وَلَا يدل على أَن فِي الأَصْل لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب فَكَذَلِك هَاهُنَا اللَّفْظ بِظَاهِرِهِ يدل على النَّفْي وَالْإِثْبَات ثمَّ إِذا صرح فِي الْوَجْهَيْنِ بالتسوية ترك الظَّاهِر وَحمل على مَا اقْتَضَاهُ التَّصْرِيح.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة تدل على شَيْئَيْنِ متضادين وعندكم أَن هَذَا اللَّفْظ يدل على إِثْبَات الحكم ونفيه وَهَذَا خلاف اللُّغَة.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِلَفْظ الْغَايَة وَأَنه قد دلّ على إِثْبَات الحكم فِيمَا قبل الْغَايَة ونفيه عَمَّا بعْدهَا وهما متضادان فَكَذَلِك الْأَمر بالشَّيْء يدل على وجوب الْمَأْمُور والانتهاء عَن ضِدّه وهما متضادان.
قَالُوا وَلِأَن دَلِيل الْخطاب مَفْهُوم الْخطاب وَمَفْهُوم الْخطاب مَا وَافقه كالتنبيه وَالْقِيَاس وَدَلِيل الْخطاب ضد الْخطاب فَلَا يجوز أَن يكون مفهوما مِنْهُ.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِالْأَمر بالشَّيْء فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ النَّهْي عَن ضِدّه وَإِن كَانَ ضد اللَّفْظ، وَأما الْقيَاس والتنبيه فَإِنَّهُمَا وافقا الْخطاب لِأَنَّهُمَا مفهومان من مَعْنَاهُ وَالدَّلِيل مَفْهُوم من جِهَة التَّخْصِيص فَكَانَ مُخَالفا لَهُ كَحكم مَا بعد الْغَايَة.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ للنطق دَلِيل لَكَانَ مَعَه بِمَنْزِلَة الخطابين وَلَو كَانَ كَذَلِك لما جَازَ تَركه بِالْقِيَاسِ كَمَا لَا يجوز ترك الْخطاب ولوجب إِذا نسخ الْخطاب أَن يبْقى الدَّلِيل كَمَا إِذا نسخ أحد الخطابين بَقِي الْخطاب الآخر.
قُلْنَا لَا نقُول إِن الدَّلِيل مَعَ الْخطاب بِمَنْزِلَة الخطابين بل هُوَ بعض مُقْتَضَاهُ وَإِذا كَانَ ذَلِك بعض مُقْتَضَاهُ جَازَ تَركه بِالْقِيَاسِ كَمَا يجوز ترك بعض مَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ.
وَأما إِذا نسخ الْخطاب فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يبْقى حكم الدَّلِيل وَالصَّحِيح أَنه يسْقط الدَّلِيل لِأَن الدَّلِيل مُقْتَضى الْخطاب وَمَفْهُومه فَإِذا بَطل الْخطاب بَطل الْمَفْهُوم كَمَا تَقول الْأَمر بالشَّيْء لما كَانَ النَّهْي عَن ضِدّه مُقْتَضَاهُ وَمَفْهُومه فَمَتَى سقط الْأَمر سقط النَّهْي كَذَلِك هَاهُنَا وَيُخَالف النطقين إِذا نسخ أَحدهمَا لِأَن أَحدهمَا غير مُتَعَلق بِالْآخرِ فنسخ أَحدهمَا لَا يُوجب نسخ الآخر وَهَاهُنَا الدَّلِيل تَابع للنطق ومستفاد مِنْهُ فَإِذا سقط الأَصْل سقط تَابعه كَمَا قُلْنَا فِي النَّهْي الْمُسْتَفَاد من الْأَمر.
قَالُوا لَو كَانَ دَلِيل الْخطاب يَقْتَضِي الحكم لَكَانَ ذَلِك مستنبطا من اللَّفْظ وَمَا استنبط من اللَّفْظ لَا يجوز تَخْصِيصه كالعلة.
قُلْنَا لَا نقُول أَن الدَّلِيل مستنبط من اللَّفْظ بل اللَّفْظ يدل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ فِي اللُّغَة وَمَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ فِي اللُّغَة جَازَ تَخْصِيصه كَسَائِر الْأَلْفَاظ.
قَالُوا لَو كَانَ تَعْلِيق الحكم على صفة الشَّيْء يدل على نَفْيه عَمَّا عَداهَا لوَجَبَ أَن لَا يحسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام كَمَا لَا يحسن فِي نفس النُّطْق.
قُلْنَا إِنَّمَا حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قد علق الحكم على أحد صفتيه ليدل على الْمُخَالفَة وَيجوز أَن يكون قد خص أحد وَصفيه بالحكم للشرف والفضيلة فَحسن الِاسْتِفْهَام ليزول هَذَا الِاحْتِمَال وَيُخَالف هَذَا النُّطْق لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال فِيهِ فَلم يحسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام.

.مَسْأَلَة: (2) إِذا علق الحكم على صفة فِي جنس كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام «فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة» دلّ على نَفْيه عَمَّا عَداهَا فِي ذَلِك الْجِنْس وَلَا يدل على النَّفْي عَمَّا عَداهَا فِي سَائِر الْأَجْنَاس:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يدل على نَفْيه عَمَّا عَداهَا فِي الْأَجْنَاس كلهَا.
لنا هُوَ أَن الدَّلِيل يَقْتَضِي النُّطْق فَإِذا تنَاول النُّطْق فِي سَائِمَة الْغنم وَجب أَن يكون دَلِيله يتَنَاوَل معلوفة الْغنم فَقَط.
وَاحْتَجُّوا بِأَن السّوم يجْرِي مجْرى الْعلَّة فِي تَعْلِيق الحكم عَلَيْهَا وَالْعلَّة حَيْثُ وجدت تعلق الحكم بهَا فَكَذَلِك هَذَا.
قُلْنَا لَا نسلم أَن السّوم بِمَنْزِلَة الْعلَّة أَلا ترى أَنه علق الحكم على مجموعها وَمَتى تعلق الحكم بوصفين كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بعض الْعلَّة فَلَا يجوز تعلق الحكم على أَحدهمَا على الِانْفِرَاد.

.مَسْأَلَة: (3) قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} يدل على الْمَنْع من الضَّرْب من نَاحيَة الْمَعْنى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة} يدل على مَا زَاد عَلَيْهِ من نَاحيَة الْمَعْنى:

وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا يدل على ذَلِك من نَاحيَة اللُّغَة وَهُوَ قَول عَامَّة المتكملين وَبَعض أهل الظَّاهِر.
لنا هُوَ أَن التأفيف فِي اللُّغَة غير مَوْضُوع للضرب والذرة غير مَوْضُوعَة لما زَاد عَلَيْهَا فَوَجَبَ أَن يكون الْمَنْع مِمَّا زَاد مفهوما من طَرِيق الْمَعْنى.
وَاحْتَجُّوا بِأَن أهل اللِّسَان يفهمون من هَذَا الْكَلَام الْمَنْع مِمَّا زَاد عَلَيْهِ وَلِهَذَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ إياك أَن تَقول لفُلَان عقل مِنْهُ الْمَنْع عَمَّا زَاد عَلَيْهِ.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نسلم أَنهم يفهمون ذَلِك من اللَّفْظ وَكَيف يفهم ذَلِك من اللَّفْظ وَاللَّفْظ غير مَوْضُوع لَهُ وَإِنَّمَا يفهم ذَلِك من طَرِيق الْمَعْنى لَكِن الْمَعْنى إِذا كَانَ جليا اشْترك الْخَاص وَالْعَام فِي إِدْرَاكه.
وَحكى أَن ابْن دَاوُد قَالَ لأبي الْعَبَّاس بن سُرَيج أَن ذرتين فَصَاعِدا ذرة وذرة فَكل ذرة مِنْهُمَا دَاخِلَة تَحت الِاسْم فَيكون اللَّفْظ دَالا على مَا زَاد فألزمه أَبُو الْعَبَّاس نصف ذرة وَقَالَ لَا يُسمى نصف ذرة ذرة على أَن الْمَعْنى دلّ عَلَيْهِ.

.مَسْأَلَة: (4) الِاسْتِدْلَال بالقران لَا يجوز:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يجوز وَهُوَ قَول المزنى.
لنا هُوَ أَن كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ المقترنين يَقْتَضِي غير مَا يَقْتَضِيهِ الآخر فَلَا يحمل أَحدهمَا على مَا يحمل عَلَيْهِ الآخر من جِهَة اللَّفْظ كَمَا لَو وردا غير مقترنين وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه إِذا جمعت بَين شَيْئَيْنِ عِلّة فِي حكم لم يجب أَن يستويا فِي جَمِيع الْأَحْكَام فَكَذَلِك إِذا جَمعهمَا لفظ صَاحب الشَّرْع لم يجب أَن يستويا فِي جَمِيع الْأَحْكَام.
وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «لَا يفرق بَين مُجْتَمعين وَلم يفرق».
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا وَارِد فِي بَاب الزَّكَاة وَأَن النّصاب الْمُجْتَمع فِي ملك رجلَيْنِ لَا يفرق بَينهمَا.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي قتال مانعي الزَّكَاة لَا أفرق بَين مَا جمع الله قَالَ الله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَبِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي الْعمرَة إِنَّهَا لقَرِينَة الْحَج فِي كتاب الله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله}.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن أَبَا أَنا بكر رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ لَا أفرق بَين مَا جمع الله فِي الْإِيجَاب بِالْأَمر وَكَذَلِكَ ابْن عَبَّاس إِنَّهَا لقَرِينَة الْحَج فِي الْأَمر وَالْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب فَكَانَ الِاحْتِجَاج فِي الْحَقِيقَة بِظَاهِر الْأَمر لَا بالاقتران.

.مَسْأَلَة: (5) الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب:

فِي قَول بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ مَذْهَب ثَعْلَب وَأبي عمر الزَّاهِد غُلَام ثَعْلَب.
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَهُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة.
لنا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فقد غوى فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام «بئس الْخَطِيب أَنْت قل وَمن يعْص الله وَرَسُوله» فَلَو كَانَت الْوَاو تفِيد الْجمع دون التَّرْتِيب لَكَانَ قد نَهَاهُ عَن شَيْء وَأمره بِمثلِهِ وَذَلِكَ لَا يجوز.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَن عبد بني الحسحاس أنْشد عمر رَضِي الله عَنهُ قَوْله:
عميرَة ودع إِن تجهزت غاديا ** كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَو قدمت الْإِسْلَام على الشيب لأجزتك فَدلَّ على أَن الْوَاو اقْتَضَت التَّرْتِيب، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ كَيفَ تقدم الْعمرَة على الْحَج وَقد قدم الله الْحَج على الْعمرَة فَقَالَ ابْن عَبَّاس كَمَا تقدم الدَّين على الْوَصِيَّة فَدلَّ على أَنهم فَهموا من التَّقْدِيم فِي اللَّفْظ التَّقْدِيم فِي الحكم، وَأَيْضًا هُوَ أَن رجلا لَو كتب كتابا فِي معنى رجلَيْنِ وَقَالَ أنفذت إِلَيْك فلَانا وَفُلَانًا سبق إِلَى فهم كل أحد من أهل اللُّغَة أَن الْمُقدم فِي الذّكر هُوَ الْمُقدم فِي الرُّتْبَة فَدلَّ على أَن الْوَاو اقْتَضَت التَّرْتِيب؛ وَلِأَن الْمَعْنى نتيجة اللَّفْظ وَاللَّفْظ فِي أَحدهمَا سَابق فَكَانَ الْمَعْنى سَابِقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ لامْرَأَته الَّتِي لم يدْخل بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق وَقعت الأولى دون الثَّانِيَة فَلَو كَانَت الْوَاو للْجمع دون التَّرْتِيب لوقعت الطلقتان كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق تَطْلِيقَتَيْنِ وَلما وَقعت الأولى دون الثَّانِيَة دلّ على أَن الأولى سبقت فِي الْوُقُوع ثمَّ جَاءَت الثَّانِيَة فصادفتها وَهِي بَائِن فَلم تقع.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول مَا شَاءَ الله وشئت فَقَالَ «أمثلان أَنْتُمَا قل مَا شَاءَ الله ثمَّ شِئْت» وَلَو كَانَت الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب لما نَقله عَن الْوَاو إِلَى ثمَّ لِأَنَّهُمَا فِي التَّرْتِيب سَوَاء.
وَالْجَوَاب: هُوَ إِنَّمَا نَقله عَن الْوَاو إِلَى ثمَّ لِأَن الْوَاو وَإِن اقْتَضَت التَّرْتِيب فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي المهلة وَثمّ تَقْتَضِي المهلة فنقله عَمَّا لَا يَقْتَضِي المهلة إِلَى مَا يَقْتَضِي المهلة فِي الاسمين المتفقين.
قَالُوا وَلِأَن الْوَاو تدخل فِي الاسمين الْمُخْتَلِفين بَدَلا من التَّثْنِيَة فِي الاسمين المتفقين فَإِذا كَانَ لفظ فِي الاسمين المتفقين لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيب وَجب أَن تكون الْوَاو فِي الاسمين الْمُخْتَلِفين لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب.
وَالْجَوَاب: أَن هَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا ثمَّ هُوَ بَاطِل بتكرير الطَّلَاق على من لم يدْخل بهَا.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَت الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب لجَاز أَن تجْعَل فِي جَوَاب الشَّرْط كالفاء وَلما لم يجز أَن تجْعَل جَوَابا للشّرط دلّ على أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب.
قُلْنَا يبطل بثم فَإِنَّهَا لَا تسْتَعْمل فِي جَوَاب الشَّرْط ثمَّ تَقْتَضِي التَّرْتِيب.
فَإِن قيل: إِنَّمَا لم يَجْعَل ثمَّ جَوَابا للشّرط لِأَنَّهَا تَقْتَضِي المهلة وَمن حكم.
الْجَواب أَن لَا يتَأَخَّر عَن الشَّرْط وَالْوَاو لَا تَقْتَضِي ذَلِك وَلَو اقْتَضَت التَّرْتِيب لجَاز أَن تجْعَل جَوَابا للشّرط.
قيل إِن كَانَت ثمَّ تَقْتَضِي المهلة فَلم تجْعَل جَوَابا للشّرط حَتَّى لَا يتَأَخَّر الْجَزَاء عَن الشَّرْط فَكَذَلِك الْوَاو وَلم تجْعَل جَوَابا للشّرط لِأَنَّهَا تحْتَمل التَّرَاخِي وَمن حكم الْجَزَاء أَن لَا يتَأَخَّر عَن الشَّرْط فَلم يجز أَن تجْعَل جَوَابا للشّرط لذَلِك.
قَالُوا ولأنا رَأينَا الْوَاو تسْتَعْمل فِي مَوَاضِع تحْتَمل التَّرْتِيب كَقَوْلِه تَعَالَى {وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة} {وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا} فَلَو رتبت الْوَاو لم يجز أَن يقدم فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ مَا أَخّرهُ فِي الْموضع الآخر وكقول الشَّاعِر:
ومنهل فِيهِ الْغُرَاب ميت

كَأَنَّهُ من الأجون زَيْت

سقيت مِنْهُ الْقَوْم واستقيت

وَمَعْلُوم أَنه استقى أَولا ثمَّ سقى فَدلَّ على أَنه لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيب.
قُلْنَا لَيْسَ إِذا اسْتعْملت فِي مَوَاضِع لَا تحْتَمل التَّرْتِيب دلّ على أَنَّهَا غير مَوْضُوعَة للتَّرْتِيب أَلا ترى أَن ثمَّ اسْتعْملت فِي مَوَاضِع لَا تحْتَمل التَّرْتِيب كَقَوْلِه تَعَالَى {فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} وَالْمرَاد بِهِ وَالله شَهِيد.
وَقَول الشَّاعِر:
كهز الرديني تَحت العجاج ** جرى فِي الأنابيب ثمَّ اضْطربَ

وَمَعْلُوم أَن الاهتزاز وَالِاضْطِرَاب لَا يفترقان وَلَا يدل على أَن ثمَّ غير مَوْضُوعَة للتَّرْتِيب والتفريق، وعَلى أَن الْبَيْت الَّذِي ذكره لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك إِخْبَارًا عَن أَفعَال مُتَفَرِّقَة لَا يتَعَلَّق بَعْضهَا بِبَعْض فَتكون على التَّرْتِيب.
قَالُوا لَو كَانَت الْوَاو ترَتّب لما حسن اسْتِعْمَال لفظ الْمُقَارنَة فِيهِ بِأَن تَقول جَاءَ زيد وَعَمْرو مَعًا كَمَا لَا يجوز جَاءَ زيد ثمَّ عمر مَعًا.
قُلْنَا يجوز أَن يكون اللَّفْظ يَقْتَضِي معنى ثمَّ يتَغَيَّر ذَلِك بِمَا يدْخل عَلَيْهِ من الْحُرُوف والألفاظ، أَلا ترى أَن قَوْله زيد فِي الدَّار يَقْتَضِي الْإِخْبَار ثمَّ تدخل عَلَيْهِ الْألف فَنَقُول أَزِيد فِي الدَّار فَيصير استفهاما فَكَذَلِك هَاهُنَا.

.مَسْأَلَة: (6) الْبَاء إِذا دخلت على فعل يتَعَدَّى من غير بَاء اقْتَضَت التَّبْعِيض:

فِي قَول بعض أَصْحَابنَا وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم}.
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا تَقْتَضِي التَّبْعِيض.
لنا أَن أهل اللِّسَان فرقوا بَين قَوْلهم أخذت قَمِيص فلَان وَبَين قَوْلهم أخذت بقميص فلَان فيحملون الأول على أَخذ جَمِيعه وَالثَّانِي على التَّعَلُّق بِبَعْضِه، وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه إِذا قَالَ مسحت يَدي بالمنديل ومسحت يَدي بِالْحَائِطِ عقل من ذَلِك كُله التَّبْعِيض فَدلَّ على أَن ذَلِك مُقْتَضَاهُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْبَاء مَوْضُوعَة لإلصاق الْفِعْل بالمفعول يدلك عَلَيْهِ أَنَّك تَقول مَرَرْت بزيد وكتبت بالقلم وطفت بِالْبَيْتِ فتفيد الْبَاء إِلْحَاق الْفِعْل بالمفعول.
وَالْجَوَاب: عَن ذَلِك كُله هُوَ أَن فِي الْمُرُور وَالْكِتَابَة إِنَّمَا حملا على الإلصاق لِأَن الْفِعْل لَا يتَعَدَّى بِغَيْر الْبَاء أَلا ترى أَنه لَو قَالَ مَرَرْت زيدا وكتبت الْقَلَم لم يكن ذَلِك كلَاما صَحِيحا فَكَانَ دُخُولهَا للإلصاق وَهَاهُنَا الْفِعْل يتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول وَيلْحق بِهِ من غير الْبَاء فَكَانَ دُخُولهَا للتَّبْعِيض، وَأما قَوْلهم طفت بِالْبَيْتِ فَإنَّا لَا نحمله على التَّبْعِيض لِأَن الطّواف عبارَة عَن الجولان حول جَمِيع الْبَيْت أَلا ترى أَنه إِذا فَاتَتْهُ طَائِفَة من الْبَيْت لم يسم طَائِفًا فروعي مُقْتَضى اللَّفْظ فَجعلت الْبَاء مزيدة فِي الْكَلَام وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْله مسحت بِالرَّأْسِ لِأَن الْفِعْل يسْتَعْمل فِي الْبَعْض وَالْكل فَإِذا دخلت الْبَاء وَجب أَن يحمل على الْبَعْض كَمَا قُلْنَا فِي قَوْله أخذت بِقَمِيصِهِ.